بشارة ويكيليكس بشأن الصراع بين عسكر الجزائر وبوتفليقة
ورقة أساسية سقطت هذه الأيام من أصابع قوى المعارضة الجزائرية وأعداء البلد الآخرين وما أكثرهم والفضل في ذلك يعود إلى فخامة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وأيضا إلى موقع ويكيليكس ومن وراءه. لا أعلم لماذا أراد صاحب الفخامة أن يحتفظ بالأمر سرا وأن يخبر به فقط الأمريكيين بدل أن يذيعه على شعبه ليزداد المؤمنون إيمانا وتطمئن قلوب المشككين ويخسأ الخصوم والأعداء. السر هو أن العسكر في الجزائر لم يعودوا يحكمون ولا يتحكمون في شؤون البلد لا سرًّا ولا جهرا، بل صاروا جنودا طيعين مطيعين لسادتهم المدنيين وباتوا يرضخون لأحكام الدستور بحذافيره.هذا ليس كلام جرائد ولا تخاريف سياسيين في السلطة أو موالين لها ولا حتى تأكيدات كبار ضباط الجيش، بل هي بشارة خير حملها وزير الدفاع والقائد الأعلى للقوات المسلحة الجزائرية الرئيس بوتفليقة إلى قائد القيادة الأمريكية لإفريقيا الجنرال ويليام ورد خلال لقاء رسمي جمعهما يوم الأربعاء 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2009 رفقة دبلوماسيين وعسكريين أمريكيين وثلة من صفوة ضباط وزارة الدفاع الجزائرية في إحدى الإقامات الرسمية لرئاسة الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية. الحديث تناول عدة مسائل تتعلق بالتعاون العسكري الجزائري الأمريكي والتنسيق في مكافحة الإرهاب إضافة إلى هذه النقطة الهامة عن موقع المؤسسة العسكرية على الخارطة السياسية والدستورية في الجزائر. بحثت في الأرشيف الجزائري الرسمي لعلي أجد إشارة ولو عابرة عن بعض تفاصيل هذا الاجتماع الذي انكشف في وثائق ويكيليكس فلم أجد غير هذه البرقية التي بثتها وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية وجاء فيها: (التقى رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة اليوم الأربعاء الفريق أول ويليام وارد قائد القوات الأمريكية في إفريقيا أفريكوم-. تم خلال اللقاء بحث العلاقات الثنائية بين البلدين والقضايا ذات الاهتمام المشترك. وكان قائد القوات الأمريكية في إفريقيا أفريكوم- قد وصل الجزائر فى وقت سابق اليوم في زيارة رسمية على رأس وفد عسكري كبير).
لا شيء في هذه البرقية يمكن أن يشبع الفضول، لكننا على الأقل صرنا الآن نعلم أن مسألة العلاقة بين مؤسسة الرئاسة الجزائرية والجيش الوطني الشعبي هي واحدة من العلاقات الثنائية بين الجزائر وأمريكا أو من القضايا ذات الاهتمام المشترك، مثلما هو الأمر بالنسبة للموقف الشخصي للرئيس الجزائري من نظيره العاهل المغربي الملك محمد السادس وشقيقه الأمير مولاي رشيد أو من الرئيس المالي أمادو توماني توري. لكن لا برقية وكالة الأنباء الجزائرية ولا برقية وزارة الخارجية الأمريكية المسربة عبر موقع ويكيليكس قالتا لنا من الذي فتح الموضوع حول قضية علاقة الجيش بالسلطة المدنية ذات الاهتمام المشترك. قد يكون الأمر متعلقا بسؤال طرحه الجنرال الأمريكي على الرئيس بوتفليقة في حضور الجنرالات الجزائريين وهذا أمر غير مستبعد ما دامت القضية صارت من صلب القضايا ذات الاهتمام المشترك، أو أن الرئيس بوتفليقة قد حرص بنفسه على أن يطلع الجانب الأمريكي الشريك في القضايا ذات الاهتمام المشترك بآخر تطورات العلاقة بين العسكر والمدنيين في الجزائر، وهذه الفرضية لها ما يبررها بحكم أن فخامته معروف في الأوساط الدبلوماسية بحديثه المسترسل وانشراح صدره لساعات طوال عندما يتعلق الأمر بضيف أجنبي (مهما كانت درجته) يزوره في مكتبه أو في إحدى إقاماته.
دعونا الآن نعود إلى تفاصيل (وثيقة ويكيليكس) التي نقرأ فيها أن فخامته أكد على أن العسكر في الجزائر يحترمون بصورة مطلقة القيادة المدنية وأن الأمر يختلف تماما عما هو حاصل في تركيا. ثم يعود فخامته إلى سنوات التسعينات وما تعرضت فيه الجزائر من مآس ليشدد أيضا على أنها كانت فترة صعبة وأن الجيش الجزائري كان مضطرا لاتخاذ إجراءات صارمة من أجل إنقاذ البلد. أما الآن فإن الأمور عادت إلى نصابها و(البيت مرتب)، قبل أن يضيف الرئيس (وبإمكاني أن أقول لكم اليوم أن الجيش يرضخ للمدنيين. وأن هناك دستورا واحدا يخضع له الجميع). ثم ينتقل إلى سنة 2004 التي تقرر فيها أن لن يعود هناك مكان للشرعية الثورية المكتسبة من أيام تاريخ الكفاح المسلح في الجزائر، وأن الشرعية الوحيدة الآن هي الدستور الذي ينص من بين ما ينص على حق كل مواطن ولو كان جنرالا في الترشح للانتخابات، لكن لا جنرال تجرأ على ذلك. ما شاء الله!
عدت مرة أخرى إلى أرشيف الجزائر السياسي لسنة 2004 وبحثت عن أية وثيقة تتحدث عن قرار متخذ بخصوص التخلي عن العمل بالشرعية الثورية وإحلال الشرعية الدستورية بدلا عنها فلم أجد شيئا، وكررت البحث لعلي أجد في واحد من أيام هذه السنة الفضيلة يوما توجه فيه الجزائريون إلى صناديق الاقتراع للتصويت في استفتاء يسأل الشعب إن كان يرغب في الاستمرار تحت حكم الشرعية الثورية أم أنه يريد التحول إلى عهد الشرعية الدستورية فلم أتذكر ولم أجد أثرا يدل على ذلك. وكل ما بقي في ذاكرة أرشيف سنة 2004 حدثان لعل لأحدهما علاقة بهذا التحول من شرعية العسكر إلى شرعية المدنيين، الأول هو الانتخابات الرئاسية التي جرت في نيسان/ أبريل وفيها أعلن عن فوز كاسح للرئيس بوتفليقة بفترة ثانية، والثاني كان خبرا بثته الرئاسة الجزائرية وفيها أعلنت للناس أن قائد أركان الجيش الفريق محمد العماري استقال من منصبه وعوِّض بالفريق أحمد قايد صالح الذي كان بالمناسبة حاضرا في الاجتماع الذي كشفت تفاصيله وثيقة ويكيليكس. أم لعل الأمر كان يتعلق باجتماع سري بين قيادة الجيش وفخامة الرئيس بوتفليقة وحده أو مع أقرب المقربين إليه وكان الموضوع هو ما يجب أن تكون عليه العلاقة مستقبلا بين الجيش والسلطة المدنية وقد اتفق الطرفان على أن الوقت قد حان لكي تتولى حضرة الشرعية الدستورية السلطة وتحال الشرعية الثورية على التقاعد. ولنا أن نتصور مثلا أن الجنرال العماري كان يقود الطرف الثوري في المحادثات وفخامته الطرف المدني وأن الاثنين تراهنا على أن يغادر الطرف الخاسر الحلبة إلى غير رجعة أو إلى حين، ومن هنا جاءت استقالة الفريق العسكري. أما ما كان يتردد حينها في الكواليس فكان يشير إلى أن الجنرال العماري كان معارضا لترشح بوتفليقة لفترة ثانية بينما كان قائد جهاز المخابرات الجنرال توفيق مؤيدا لنهج الاستمرارية وإطلاق الحبل لصاحب الفخامة لكي يتمرغ في السلطة ما شاء له من الفترات ويكون مثله مثل باقي أصحاب الفخامة سلاطين الجمهوريات العربية، ولعل هذا ما جعل الرئيس بوتفليقة يفهم أن العسكر صاروا يخضعون لرغبات السلطة المدنية ويأتمرون بأمرها طبقا لما تنص عليه أحكام الدستور، كما يمكننا أن نفهم من سياق الوثيقة الأمريكية أن فخامته قد يكون طلب من الجنرال العماري الترشح ضده إن أراد لكن الأول رفض العرض.
وثيقة ويكيليكس ليست في مقام أن نكذبها، لكننا مضطرون إلى طرح بعض التساؤلات حول تأكيدات الرئيس بوتفليقة وحول جدية حديثه عن رضوخ العسكر للسلطة المدنية، وهو الحدث الذي كان جديرا بالجزائريين أن يعلموا به في حينه حتى تتغير نظرتهم إلى واقع الأمور ويبتهج الكثيرون لهذا الخبر السعيد وأيضا ليطالب نواب البرلمان بإضافة يوم التحول التاريخي من العسكري إلى المدني إلى قائمة الأيام والأعياد الوطنية على غرار يوم الشهيد وعيد الاستقلال. كان يفترض أيضا أن نعلم بهذا القرار العظيم قبل أن تصل أخباره إلى القيادة العسكرية الأمريكية لأنه يندرج أيضا ضمن قائمة المسائل ذات الاهتمام المشترك لدى الجزائريين وحتى يتوقف آلاف الجزائريين المصطفين في طابور التزلف والنفاق السياسي عن الاستمرار في تقديم الولاء للعسكر وتركيز اهتمامهم على التقرب من صاحب السلطة الوحيد والأعلى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ويتقدم آلاف الجزائريين الآخرين الناقمين على السلطة إلى فخامته بأصدق عبارات الشكر والثناء على المجهود الجبار الذي بذله من أجل تخليص السلطة والدستور من مخالب العسكر والشرعية الثورية التي ظلت جاثمة على صدور الناس طيلة عقود الاستقلال الطويلة.
شكرا فخامة الرئيس نيابة عن الجميع وحلال عليك منصبك لما بقي من عمرك لأنك عرفت كيف تتسلق على أكتاف الشرعية الثورية إلى الحكم وتستمر خاضعا لها قبل أن ترمي بها في البحر الميت وتقفز أنت إلى واحة الشرعية الدستورية. صورة جميلة وحكاية ممتعة يرويها بطل أسطوري، لكن هل صدقها الأمريكيون فعلا؟ نأمل أن يأتينا الجواب في وثيقة أخرى من وثائق ويكيليكس أو من أرشيف أهل الشرعية الثورية.